يقول المصنف: [فكأنَّا نشاهد تلك الإصبع الكريمة وهي مرفوعة إلى الله] إن كل من يؤمن بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم وبعدالة الصحابة رضوان الله تعالى عليهم وصدقهم ونقلهم يؤمن بهذا الحديث كأنه يراه رأي العين، وإن كان بينه وبين تلك الواقعة القرون الطويلة.
يقول: [وذلك اللسان الكريم] أي: وكأنا نشهد لسانه الكريم صلى الله عليه وسلم وهو يخاطب من رفع إصبعه إليه، وليس بعد ذلك حجة لمجادل ولا شبهة لصاحب شبهة، ونشهد نحن المؤمنين جميعاً وإن تباعدت القرون والأجيال والأعصار أنه بلَّغ البلاغ المبين كما شهد له بذلك أصحابه الكرام، فالمصنف رحمه الله كأنه يقول: لنتصور أننا في ذلك الموقف نرى النبي صلى الله عليه وسلم وهو يرفع إصبعه الكريمة مخاطباً ربه الكريم سبحانه وتعالى ويقول: {
اللهم اشهد} ونحن أيضاً نقر ونصدق بأنه صلى الله عليه وسلم قد بلَّغ وأدى ونصح كما نطق بذلك الصحابة الكرام؛ لأننا على آثارهم سائرون، فنشهد بما شهدوا به، ونقر بما أقروا به، ونصدق بما صدقوا به، من أنه صلى الله عليه وسلم بلَّغ وأدَّى ونصح.
ثم قال المصنف: "ونشهد أنه قد بلغ البلاغ المبين" الذي ليس بعده بلاغ، ولا شبهة إلا الشبهة الداحضة للكافرين والمجرمين، "وأدى رسالة ربه كما أمر" ولا شك أنه صلى الله عليه وسلم بلغ رسالة ربه، وقد خاب وخسر من ادعى أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الدين، كما قالت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها في الحديث الثابت الصحيح الذي تقدم معنا أكثر من مرة في باب الرؤية وغيره: [[ من زعم أن محمداً صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً مما أنزله الله عليه فقد أعظم على الله الفرية]] وليس كذبه فقط على رسول الله صلى الله عليه وسلم، بل على الله، وقد وجد في عهد الصحابة رضي الله عنهم من يزعم أن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من الحق أو كتمه أصحابه؛ لأن الشيطان وأعوانه في كل زمان ومكان يريدون أن ينتقصوا من قدر رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومن قدر صحابته، ومن قدر هذا الدين الذي أنزله الله تبارك وتعالى عليه، وممن كان ينتقص رسول الله صلى الله عليه وسلم بذلك أولئك الروافض الذين ظهروا في زمن الصحابة رضوان الله تعالى عليهم أيام علي وعائشة رضي الله تعالى عنها فقد قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كتم شيئاً من العلم، واختص به علياً وأهل بيته.
سبحان الله! ألنبي صلى الله عليه وسلم الذي بعثه الله رحمة للعالمين، وأنار به قلوب الناس أجمعين، ودخل الناس في دينه من كل لون ومن كل قبيلة ومن كل جنس، ثم هو صلى الله عليه وسلم يصنع كملك من ملوك الدنيا ويختص أهل بيته بما لا يعطي بقية الناس؟! نعوذ بالله من سوء الظن بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم..!
وهذا القول من الكفر البواح؛ فمن قاله أو اعتقده فقد كفر بالله وبرسوله صلى الله عليه وسلم؛ لأن معنى هذا الكلام ومقتضاه: أن النبي صلى الله عليه وسلم لم يطع ربه في أمره له بأن يبلغ هذا الدين، فقد قال تعالى: ((يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ))[المائدة:67] وإذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لم يبلغ شيئاً من رسالة ربه، فدين الإسلام إذاً باطل.. بل الرسالة كلها باطلة، وهذا هو ما يريدون قوله؛ ولذا زعموا أن النبي صلى الله عليه وسلم اختص علياً وآل البيت بشيء من العلم، ومنه ما يسمونه (علم الجفر) ويزعمون -حسب خرافتهم الفاسدة- أنه مع صاحب السرداب.
وتدعي ذلك أيضاً الصوفية كما ادعته الباطنية والرافضة -ومشرب الجميع وموردهم متحد- قالوا: إن النبي صلى الله عليه وسلم كان يخص بعض الصحابة بالعلم الباطن (العلم اللدني) ولم ينشر ويبث إلا العلم الظاهر الذي هو علم الشريعة، وأما علم الحقيقة -بزعمهم- فإنه كان يخص به البعض ويكتمه عن سائر الأمة. ويستشهدون على ذلك بأحاديث مكذوبة ليس لها أصل، ومن ذلك أن عمر بن الخطاب رضي الله تعالى عنه قال: {كان النبي صلى الله عليه وسلم يتكلم هو وأبو بكر وكنت كالزنجي بينهما} يعني: لا يفهم شيئاً. سبحان الله! حتى لو لم يكن يدرك المعاني أفلا يفهم الألفاظ؟! عمر رضي الله تعالى عنه الذي ذكر عنه النبي صلى الله عليه وسلم أنه في عهده يضرب الدين في الأرض بجرانه، وتستحيل الخلافة غرباً كما في رؤياه صلى الله عليه وسلم فاستحالت كما قال. ثم قال: {فلم أرَ عبقرياً يفري فريه}، وقد نشر دين الله حتى عم مملكتي كسرى وقيصر، فهل نشر الدين كله أم نشر فقط الجزء الظاهر! ولم ينشر من العلم الحقيقي والعلم اللدني والعلم الباطني شيئاً؟! هكذا يكذبون على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أبي بكر وعمر وعلي ولهذا لما سئل علي رضي الله تعالى عنه: هل خصكم رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم؟ -والحديث متفق عليه وروي في كثير من دواوين السنة- قال: {لا والذي خلق الحبة وبرأ النسمة ما خصنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بشيء من العلم دون الناس إلا ما في هذا الكتاب، فأخرج كتاباً من قراب سيفه فإذا فيه العقل، وفكاك الأسير، وألاَّ يقتل مسلم بكافر}، على اختلافٍ في الروايات، ومضمونها كلها أنه كتاب كتبه النبي صلى الله عليه وسلم عندما عاهد اليهود وأهل المدينة على ألاَّ يؤوي أحد من أهلها فيها محدثاً، وفيه الديات وفكاك الأسير، وألاَّ يقتل مسلم بكافر.
وهذه أحكام ظاهرة معلومة، وقد بلغها النبي صلى الله عليه وسلم للناس جميعاً؛ لكن علياً رضي الله عنه اختص بأنه اطلع على هذا الكتاب، ووقع بيده فاحتفظ به، وإلا فالأمر والعلم فيه مشهور ومنتشر.
ثم قال علي رضي الله عنه: {إلا فهماً في كتاب الله} والفهم الذي يفهمه الإنسان في كتاب الله لا يختص بـعلي رضي الله عنه ولا بغيره، بل قد يأتي في آخر الزمان من يفهم من كتاب الله ما لم يفهمه أحد من قبله، ولا غرابة في ذلك.
فنشهد -كما قال المصنف رحمه الله- أن رسولنا صلى الله عليه وسلم بلَّغ الأمانة، وأدَّى الرسالة، ولم يكتم شيئاً من الحق، ولم يختص به طائفة دون أخرى لغرض من الأغراض كما يزعم أولئك المبطلون، ونشهد ونُقر بأن من افترى على رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه كتم شيئاً من الدين، أو أنه خص بأمر من أمر الدين -فضلاً عن كونه يكتم أعظم أمر من أمور الدين كما يزعمون- أقواماً وكتمه عن سائر الأمة؛ فنشهد أن هذا من الكفر البواح الذي لا يقوله مؤمن بالله ولا برسوله صلى الله عليه وسلم.
يقول: "ونشهد أنه بلغ البلاغ المبين، وأدى رسالة ربه كما أمر، ونصح أمته غاية النصيحة، فلا يحتاج مع بيانه وتبليغه وكشفه وإيضاحه إلى تنطع المتنطعين، وحذلقة المتحذلقين" ومن أمثلة تنطع المتنطعين وحذلقة المتحذلقين قول المتكلمين: (لا نثبت العلو، ولا نشير إليه حساً؛ لأن في هذا دلالة على أنه جسم من الأجسام، وعلى أنه في جهة؛ فنحن ننزه الله تعالى عن هذه الأمور، وعن مشابهة المخلوقات) فنقول لهم: كيف يشير النبي صلى الله عليه وسلم بنفسه، ثم أنتم تتنزهون عن شيء فعله رسول الله صلى الله عليه وسلم؟! إن هذا لهو عين الباطل.
أما إن كان ذلك من أجل اللوازم التي تتوهمونها، فهذه اللوازم باطلة من غير نفي الإشارة، وكل ما كان باطلاً فإنه لا يثبت في حق الله سبحانه وتعالى، ولكن الإشارة هي من فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولا تستلزم ما تريدون أن تلزموها به "والحمد لله رب العالمين".